الواقع السياسى المصرى وإعادة إنتاج التخلف
بقلم/ سمير الأمير
لعل أخطر ما يلاحظه المتأمل للواقع السياسى المصرى فى تجلياته الحالية و فى خطاباته التى تبدو متعارضة ( ظاهريا فقط)، أخطر ما يكتنف هذا الواقع هو سيادة سمات الركود والجمود وانعزال النخب عن الجماهير العادية وكذا انعزالها عن بعضها البعض وعجزها عن خلق تصورات مشتركة وحدود للتعامل يحترمها الجميع يسارا ويمينا تمهيدا للاتفاق على خطوة تخرجنا من تلك الحالة التى أدت إلى انسداد كل آفاق التغيير وشكلت ظرفا مواتيا لانتشار الفساد ولانحطاط التفكير، ويتصور البعض أن انتشار حالات الاحتجاج الفئوية والوقفات الاحتجاجية – وهى طبعا ظاهرة ايجابية- هى مسألة كافية لإحداث تغيير نوعى فى الحياة السياسية المصرية بل يذهب بعض المراهقين إلى تصور أن التغيير الشامل على وشك المجىء فقط لأن أذنيه قد التهبت بسبب ما سمعته من هتافات مدوية على سلالم نقابتى المحامين والصحفيين، وحتى لا يبدو أننى ألعب دور الحكماء والمحايدين الذين يكتبون المقالات فى الغرف المكيفة آخذين طريقا ثالثا بين النظام ومعارضيه ومتوخين الحذر تجنبا لغضب النظام الذى قد يصل للحرمان من الرزق ولغضب المعارضة التى لا تكف عن اتهام منتقديها بالخيانة إلا عندما تشرع فى اتهام نفسها بنفس التهمة وقد سمعنا ورأينا ذلك مرات ومرات بين الإخوان واليسار وبين الجمعية الوطنية للتغيير وحركة كفاية من جانب وبين الجمعية الوطنية للتغيير والأحزاب التى تتهم الجمعية بتجاوزها وتتهمها الجمعية بالارتماء فى أحضان النظام وبعقد صفقات معه لتزوير الانتخابات و إرادة الجماهير - وكما أسلفت لا أريد أن ألعب هذا الدور المحايد الذى يساوى بين الأحزاب المحاصرة داخل مقراتها وبين الحزب الذى يمتلك الإعلام ويسخر كل إمكانيات الدولة لصالحه أو بين رجال الأعمال بالغى الثراء وجماهير الفقراء بالغى البؤس فهذا لا يليق بى ولا بالمدرسة الفكرية التى انتميت إليها والتى لا رغبة عندى فى التخلى عنها و هى مدرسة اليسار المصرى بمعناه العام، ولكن ذات المدرسة علمتنى ألا أستقى أفكارى من سياق الخطابات السياسية سواء تلك الصادرة عن الحكومات أو تلك التى تدبج بيانات المعارضة، فلا يخفى على أحد أن الإعلام الرسمى وكلام المسؤلين ملىء بالكلام عن العدل والحرية والديموقراطية وهى نفس المفردات التى نجدها عند ما اصطلح تجاوزا على تسميتهم بالمعارضين فما الذى يجعلنا إذن نصدق طائفة ونكذب الأخرى، إن الممارسات فى الواقع هى المعيار الوحيد للحكم على كل تلك الكلمات البراقة عند الطرفين (الحكومة والمعارضة) و يبدو حتى الآن أنهما لم يتفقا على شىء قدر اتفاقهما على خداع واستهبال الجماهير، وهو الأمر الذى يؤخر تطورنا الديموقراطى لكونه يدعم عزوف الناس عن المشاركة ويشيع الإحباط العام الناجم عن انعدام ثقة المواطن فى الحكومة والمعارضة على حد سواء فهما فى نظر الناس ( بتوع كلام)، وقد يكون خداع الناس هو الهم الرئيس للحكومات التى انتهت صلاحيتها لأن استمرارها مرهون بحالة اللاوعى وبقدرتها على السيطرة على الاحتجاجات الفئوية وحصارها فى المطالب التى تنحصر فى الحصول على علاوة إضافية أو حتى مجرد صرف الأجور المتأخرة، أما دور المعارضة فهو بحق الجدير بالتأمل فهى لا تكف عن الصراخ والشكوى من تحجيم دورها وحصارها فى المقرات الحزبية وتتهم السلطات بتزوير الانتخابات ثم تشارك فيها بحماس غريب وهى تعلم نتيجتها مسبقا!! ، بل لا ترفض أن يتم اختيار بعض قادتها للتعيين فى مجلسى الشعب والشورى لكى تكتمل شكلانية الصورة الديموقراطية ولا أبالغ حين أقول أننى شاهدت بنفسى عمليات تزوير تتم لصالح رموز من المعارضة بما فيها الحزب الذى كنت أنتمى إليه قبل أن أستقيل منه بسبب تعاطيه مع ديموقراطية المحاصصة الطائفية فى العراق وامتداحها على صفحات جريدته رغم كونه يدعى أنه من أنصار العروبة والوحدة والتقدم وبعد ذلك تلقى المعارضة باللوم على الحكومة التى تمنعها من الالتقاء بالجماهير دون الاعتراف بأن عزوف الجماهير عنها ليس إلا تعبيرا عن فقدان الثقة فى قيادات قبلت أن تكون جزءا من لعبة الديموقراطية المزيفة، بل يرصد الناس العاديون أدلة كثيرة على ارتباط المصالح الاقتصادية لبعض رموز المعارضة من أصحاب المصالح والشركات بالنظام السياسى القائم ومن ثم تصبح المشاركة والتعاطى مع ما تطرحه الحكومات تعبيرا عن ارتباط مصيرى وليست مثيرة للدهشة كما يتوهم السذج، من هنا بدا ظهور حركة كحركة كفاية ضرورة موضوعية للخروج من هذا المأزق الذى جعل كل من الحكومة والمعارضة الرسمية تكوينا واحدا أو وجهين لعملة واحدة، ولكن الذى حدث أن كفاية اتخذت نفس المسار الذى أدى إلى انهيار التجربة الحزبية المصرية وفى تقديرى أن الحركة كان يجب أن تكتفى بدورها كعامل منشط فى الحياة السياسية المصرية الأمر الذى كان يجب أن يدفعها لأن تسعى لجذب الأحزاب ناحية برامجها الأساسية ومن ثم تدفع أعضاءها الهاربين من أحزابهم إلى العودة وممارسة نضالا داخل الإحزاب تمهيدا لاستعادتها كأدوات للتغيير الديموقراطى ولكن الذى حدث أن حركة كفاية أصبحت خصما من قوة الأحزاب السياسية بينما كان ينبغى أن تكون داعمة لها فى مواجهة سياسة الاحتواء الذى تقوم به الحكومة بالاتفاق مع قيادات تلك الأحزاب، أى كان يجب إحداث تغيير داخل الأحزاب نفسها لكى تصبح قادرة على التأثير فى المجتمع فيما بعد، ولكن الحركة التى أعلنت عن كونها مستقلة عن الحياة الحزبية وأعلنت عن فردية الانضمام إليها أراحت القيادات الحزبية لأنها خلصتها من الناشطين الذين كانوا يخوضون صراعا داخل أحزابهم ضد خط القيادة التى تتعاطى مع الصفقات الانتخابية ومن ثم ساهمت الحركة دون أن تقصد فى دفع الأحزاب للارتماء فى أحضان النظام السياسى أكثر وأكثر, و أخرت من إمكانيات النهوض فعملت ضد أهدافها الأساسية وانتهى أمرها بدفع بعض أعضاءها المتمردين على أحزابهم إلى خوض الانتخابات النيابية تماما كما لو كانت حزبا سياسيا ففقدت الحركة بريقها الجماهيرى وخبا صوتها ولم يعد إلا عندما أعلن الدكتور البرادعى عن نيته للترشح لرئاسة الجمهورية فالتفت الحركة حوله دون أن تعى أن هذا يعنى اعترافها بعدم وجود شخصية من أعضائها قادرة على خوض غمار التغيير ولم يدرك أحد أن ما يحدث ينافى المنطق تماما فالبرادعى هو الذى كان يجب عليه أن ينضم للحركة السياسية المصرية ويخوض نضالا معها من أجل تغيير الدستور ولكن الواقع يقول أن العكس هو الذى حدث وكأن النخبة عجزت عن تأسيس قواعد تقدمية لتطوير الواقع السياسى المتخلف الذى يشخصن الكفاح السياسى للشعوب ويركز على وهم وأسطورة المُخلص، والحقيقة أننى لا أستطيع أن أفهم لماذا لا يعترف شخص مثل الدكتور البرادعى بأنه هو الذى كان يجب أن ينضم لحركة التغيير الديموقراطى تحت قيادة من قضوا جل عمرهم فى أتون تلك الحركة، أليس ذلك أقرب للعلم وللمنطق ولا مانع طبعا بعد ذلك من أن ترشحه الحركة لانتخابات الرئاسة، أظن أن الأمر هنا ينطوى على حقيقة يجب الاعتراف بها وهى أننا نعيد إنتاج التخلف بحماس شديد دون أن ننتبه إلى خطورة ما نفعله، ليس معنى ذلك أبدا الانتقاص من قدر الشخصيات البارزة كالبرادعى والدكتور محمد غنيم ولكن الأول قضى العقدين السابقين وهو ملء السمع والبصر على المستوى الدولى ولا يضيره أبدا أن يعود إلى مصر كمواطن عادى وينضم إلى صفوف الذين لم يتوقفوا عن النضال من أجل الحرية والتقدم ويتعلم منهم بقدر من التواضع واحترام الخبرة، والثانى أقصد" الدكتور غنيم " هو عالم وطبيب قدم خدمات غير مسبوقة للمصريين الفقراء فى مركز الكلى والمسالك الذى سيظل يحمل اسمه لأجيال قادمه ولا يضيره أيضا أن يتعلم العمل السياسى على أيدى الكوادر السياسية فى الأحزاب المصرية أو فى حركات المجتمع المدنى المستقلة ومن ثم نشعر أن انضمام هؤلاء العلماء إلى الشأن العام يمكن أن يطور الواقع السياسى ويحفز الجماهير السلبية المحبة لهم على المشاركة فى حركة التغيير، أما أن تصبح مصر بديلا لهيئة الطاقة الذرية أو لمركز الكلى والمسالك فهذا لا يعدو كونه إعادة إنتاج للتخلف وهو مالا يرضى طموحات الشعب المصرى ومن المؤكد أيضا أنه لا يرضى الدكتور غنيم ولا الدكتور محمد البرادعى.