كأن الشاعر أحمد فؤاد نجم حينما قال مخاطبا مصر "علمنى حبك عبارة سهلة وبسيطة وعفية/ شرط المحبة الجسارة شرع القلوب الوفية" كان يقصد أسامة أنور عكاشة، هذا الذى أحب مصر حتى فنى، وأخلص حتى تفانى، وهام شوقا بأزقتها وحواريها وناسها الطيبين الأصفياء، حتى صار قريبا وصديقا وأخا وأبا وأما لكل مصرى، عكاشة الذى تعلمنا منه حب الحياة والجسارة فى الوقوف أمام الظالمين المتبلدين، مات لم يخلف وراءه وصية، لكن من يطالع أعماله الكبيرة السامقة يدرك أن وصاياه الطيبة تزين مسلسلاته وأفلامه وتعطيها معنى وجمالاً وبهاء، فعكاشة كان يضع فى كل شخصية درامية جزءاً منه ومن براءته وصدقه وأفكاره ومبادئه، وكأنه كان يتخفى وراء هذه الشخصيات ليقول لنا هذا هو أنا، أحمل صمود أبو الغار وأصالة أبو العلا البشرى ووداعة على البدرى، وحيرة حسن أرابيسك، ولم أكتب فى كل حياتى إلا ما أحسه وأصدقه، ولم أبتغ شيئا إلا حب الوطن، لأن "حب الوطن فرض عليا أفديه بروحى وعنيا".
نجح أسامة أنور عكاشة فى أن يسرب لنا عبر أعماله الدرامية الكبيرة قيم الأصالة والشجاعة فى الإعلان عن الحب، والصمود فى وجه الظلمة، والقتال من أجل قيمنا ومبادئنا، وأن يشكل عبر أعماله المتعددة صورة مصر الأمل ومصر القيمة، ومصر الأم، لكن إن أردنا أن نكتشف أقرب الشخصيات إليه، فسنجد أن "حسن فتح الله النعمانى" أو "حسن أرابيسك" هو الوجه الحقيقى له، هذا الإنسان الفاضل الكريم دون تزيّد، والعاشق المهزوم دون إذلال، والكبير دون مكابرة، والمعطاء دون من، الذى يرضى بالفقر ولا يرضى بالهوان، ويقبل السجن ولا يقبل الكذب، يشغله سؤال الهوية "إحنا مين؟"، وحينما لا يجد إجابة يفضل أن يصمت على أن يزيف وجهة نظره، وحينما يوضع فى مفترق طرق ينحاز بتلقائية وشجاعة نادرتين إلى أصله العربى "الأرابيسك" لأنه يعرفه، وظهر هذا التوجه فى المسلسل، حينما اتفق معه الدكتور برهان على أن يتولى بناء فيلا "تحفة" تجمع تاريخ مصر الطويل، فسخر "أرابيسك" من هذا الاتفاق بينه وبين نفسه، وترك الفيلا التى يعرف أن أساسها متهاو لتسقط فى الزلزال، ولما حبسته السلطة بتهمة هدم بناء دون ترخيص، دافع عن نفسه بخطبة عصماء ألقاها فى السجن أمام المساجين، وكأنه يخاطب مصر كلها التى أصبحت بفعل فاعل داخل الزنزانة، لتتحول القصة كلها إلى رمز لحال مصر، بعد أن أتعبها المخربون وضاق أبناؤها الأوفياء بالزيف والمغالطة، ويضع من حب مصر شرطا أساسيا لاقتراح صيغة النهضة التى تنقذ مصر مما أتعبها وخربها وأذلها.
يقول حسن أرابيسك أمام المساجين الذين يعتبرهم قاضيه الحقيقى "سواء كان أنا.. أو الزلزال.. أو التوابع.. فاللى حصل ده كان لازم يحصل، لأنه الترقيع مينفعش السلطة متنفعش البزرميط مينفعش، وبعدين الفن مهوواش طبيخ، الدكتور برهان جه وقال عايزين نعمل تحفة، ترمز لتاريخ مصر كله، بس تاريخ مصر كبير أوى وطويل، فرعونى على قبطى على رومانى على يونانى على عربى، ومن ناحية تانية بتبص ع البحر لكن الذوق غير الذوق، الطعم غير الطعم واللون غير اللون، ومفيش حاجة جت وعجنت ده كله فى بعضه وطلعت فن مصرى نقدر نقول عليه الفن المصراوى اللى بجد، يبقى نعمل اللى أحنا عارفينه، وأنا لعبيتى إيه "الأرابيسك" يبقى نتكل على الله ويلا، واحد تانى يقول مصرى مصر دى طول عمرها ع البحر وزى ما الأوربيون عملوا إحنا نعمل، الجريك والفرنساويين واليونان أخدو مننا وهضموا واتطوروا، نعمل زيهم ونطلع لقدام، ماشى مبقولش لأ مادام فاهم وبيحب مصر، والحمد لله إن الفيلا وقعت عشان نرجع ونبتدى مع مصر من أول وجديد على ميه بيضا، لكن المهم نعرف إحنا مين وأصلنا إيه وساعه ماننعرف أحنا مين هنعرف أحنا عايزين إيه، وساعتها نتكل على الله".
هذه هى الوصية المهدرة لحسن فتح الله النعمانى أو حسن أرابيسك أو أسامة أنور عكاشة، وضعها أمامنا كأساس للنهضة التى نبتغيها، والوصية أمانة فى أعناقنا حتى نرى مصر كما نحب أن نراها.